
قد يتقف معي بعض الزملاء ويختلف آخرون فليس أكثر التباسًا في النقاش العام من الأسئلة التي تُطرح خارج سياقها المعرفي، ولا أشد خطرًا من المفاهيم التي تُستدعى من غير تعريف، ثم يُبنى عليها حكمٌ أو توصية. ومن هذا الباب جاء اللقاء الإعلامي الذي عُقد يوم أمس تحت عنوان: *«مساحة الإعلام في الحكم المدني»،* وهو عنوان يشي – منذ الوهلة الأولى – بإشكال مفاهيمي عميق، قبل أن يكون إشكالًا سياسيًا أو علمياً أو إعلاميًا.
فمتى كان الإعلام، في أي نظام حكم عرفه التاريخ، يُقاس بالمساحات؟وأي عقلٍ مؤسسي ارتضى أن تُختزل وظيفة الإعلام في هامش يُمنح، أو مساحة تُحدد، أو سقف يُرفع ويُخفض بحسب المزاج السياسي؟ الإعلام، في جوهره، ليس تابعًا للسلطة حتى تُحدد له مساحته، ولا ملحقًا بالحكم حتى يُمنح هامشًا يتحرك فيه. الإعلام وظيفة رقابية أصيلة، وسلطة معنوية قائمة بذاتها، وركنٌ من أركان انتظام المجال العام، لا يستقيم أي حكم كان إلا به، ولا تُحمى شرعيته إلا عبره.
وعلى امتداد النظم السياسية – مدنية كانت أو غير ذلك – لم يُقاس الإعلام يومًا بالمساحة، بل قيس بالأثر، والمهنية، والقدرة على مساءلة السلطة، وصناعة الوعي، وحماية الرأي العام من التضليل والانحراف.لقد نشأ علم الإعلام الحديث على أربع نظريات كبرى: نظرية السلطة. نظرية الحرية. نظرية المسؤولية الاجتماعية. النظرية الاشتراكية غير أن هذه النظريات – رغم أهميتها التاريخية – لم تعد قادرة وحدها على تفسير المشهد الإعلامي المعاصر اليوم. فقد تغير العالم، وتغيرت أدوات التأثير، وتحوّل الإعلام من ناقل للحدث إلى صانع له، ومن وسيط بين السلطة والجمهور إلى فاعل مؤثر في توجيه القرار العام.
فالإعلام اليوم: يصنع الأجندة. يقود الرأي العام. يراقب الأداء التنفيذي. ويصحح انحراف السلطة حين تعجز مؤسساتها عن ذلكفأي معنى – بعد هذا كله – للبحث عن “مساحة” للإعلام تمنح ؟؟إن الحديث عن “مساحة للإعلام” هو في حقيقته لغة سلطة لا لغة دولة، ومنطق وصاية لا منطق شراكة. وهو يعكس ذهنية ترى في الإعلام خطرًا ينبغي احتواؤه، لا شريكًا يجب تمكينه.
بل الدول التي تحترم نفسها لا تسأل:كم نعطي الإعلام من مساحة؟ بل تسأل:كيف نضمن استقلاله؟ كيف نحمي مهنيته؟كيف نمنع توظيفه ضد المجتمع أو لصالح الفساد؟وهنا دعوني أسأل سؤالاً أخيراً… بلا إجابة
ويبقى هو السؤال المؤلم الذي يفرض نفسه بعد انتهاء اللقاء:هل خرج المجتمعون فعلًا بالمساحة التي يريدونها للإعلام؟أم خرجوا فقط بعنوانٍ فضفاض، ونقاشٍ يدور حول المصطلحات، دون أن يمس جوهر الإشكال؟إن البحث عن “مساحة للإعلام” في زمن الإعلام الفاعل، هو – للأسف – من بدع الزمان، وترهات الواقع، ودليل على أن بعض النقاشات ما زالت تُدار بعقل الأمس، في عالم تجاوز الأمس بسنوات ضوئية. والأخطر من ذلك كله، أن يُراد للإعلام أن يكون حاضرًا في العنوان…
غائبًا في المعنى.
Elhakeem.1973@gmail.com




