
خلفت الحرب الدائرة في العاصمة السودانية الخرطوم منذ أبريل 2023 آثارًا مدمرة على كافة البنى التحتية، وكان للجسور نصيب وافر من هذا الدمار، حيث تضررت بشكل مباشر من القصف، والاهتزازات الهيكلية، واحتراق الأسفلت، وتآكل الركائز، وانهيار الحواجز الجانبية.
وبينما كان من المفترض أن تُخضع هذه الجسور لبرامج فحص إنشائي طارئ وصيانة هندسية مخططة، فوجئ المواطنون بممارسات غير مهنية من قبل هيئة الطرق والجسور بولاية الخرطوم، تمثلت في “الترقيع السطحي” وتجاهل الأساسيات الفنية التي تضمن سلامة الأرواح واستدامة المنشآت.
⸻
أولاً: الجسور في زمن الحرب – منشآت في دائرة الخطر
الحرب لم تكن رحيمة بالجسور، فقد:
• استُخدمت كتمركزات عسكرية، ما عرضها لحمولات غير مصممة لها.
• تعرضت بعضها لقصف مباشر أو صدمات ناتجة عن الذخائر الثقيلة.
• تضررت طبقات العزل والإسفلت بفعل الحريق والتسربات.
• حدثت تشققات في البلاطات الخرسانية والركائز نتيجة للاهتزازات المستمرة.
• نُهبت المعدات الكهربائية والإنارة المرتبطة بالجسور.
كل هذه العوامل تجعل صيانة الجسور أولوية أمنية وإنشائية عاجلة، وليس مجرد ملف إداري يُفتح حينما تتاح الظروف.
⸻
ثانيًا: ماذا تفعل هيئة الطرق والجسور؟
“ترقيع” بدلاً من صيانة
في ظل غياب الرؤية الهندسية، اكتفت الهيئة بـ:
• سد الحفر بالإسفلت البارد المؤقت دون فحص الطبقات التحتية.
• طلاء سطحي للحواجز دون إصلاح التآكل أو استبدال المقاطع المتضررة.
• ردم الفواصل الإنشائية بالرمل والإسمنت بشكل غير احترافي.
• عدم إجراء أي اختبارات تحميل Load Tests للجسور المتضررة.
• إهمال كامل للتقييم الإنشائي باستخدام الفحوصات غير المتلفة NDT.
إن هذه الممارسات ليست صيانة هندسية بأي معيار، بل تمثل “تجميلًا للخراب” بشكل يُهدد السلامة العامة، ويخالف أبسط متطلبات الكودات العالمية مثل:
• كود AASHTO الأمريكي لصيانة الجسور.
• دليل FIB Model Code لتقييم الأضرار بعد الكوارث.
• الكود البريطاني BS EN 1504 لترميم الخرسانة المتدهورة.
⸻
ثالثًا: مخاطر التأخير والعشوائية
1. انهيار مفاجئ: الجسور المتضررة من الحريق أو القصف قد تنهار دون سابق إنذار إذا لم تُفحص بدقة.
2. حمولات زائدة: الطرق البديلة مزدحمة، مما يزيد الأحمال على الجسور القائمة.
3. تعطل شبكات الخدمات المارّة عبر الجسور (كالمياه والكهرباء).
4. تعقيد إعادة الإعمار لاحقًا بسبب فقدان قاعدة بيانات فنية دقيقة لحالة الجسور الحالية.
⸻
رابعًا: ما الذي يجب فعله الآن؟
توصيات هندسية عاجلة:
1. تشكيل لجنة فنية مستقلة تضم مهندسين مدنيين وخبراء إنشائيين من الجامعات وقطاع الاستشارات.
2. إجراء تقييم طارئ لحالة الجسور باستخدام معدات فحص غير متلفة (NDT).
3. تحديد الجسور ذات الخطورة العالية ووضع إشارات وتحويلات مرورية حولها فورًا.
4. وضع خطة صيانة وترميم لكل جسر على حدة وفقًا لمستوى الضرر ونوعه.
5. الابتعاد عن الترقيعات العشوائية التي تزيد الضرر على المدى البعيد.
6. الاستفادة من المنظمات الدولية (مثل UNOPS أو صندوق إعادة الإعمار) في تمويل الصيانة والتأهيل.
⸻
خاتمة:
ما يحدث الآن في ولاية الخرطوم من ترقيعٍ سطحي للجسور المتضررة من الحرب ليس مجرد خلل في الأداء الإداري، بل يمثل تهديدًا مباشرًا لحياة المواطنين ومخاطرة فادحة بالأمن الإنشائي للمدينة.
المطلوب اليوم ليس التجميل، بل صيانة هندسية حقيقية مدروسة، تقوم على العلم والمسؤولية والمهنية. وعلى الجهات المختصة أن تدرك أن كل يوم تأخير يعني تقويضًا جديدًا للبنية التحتية، وفاتورةً أكبر في المستقبل القريب.
بقلم: م. محمد مبارك الصادق
عضو الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيينASCE
عضو معهد البناء والتشييدCI~ASCE