
لم تكن زيارتي لمكتب مدير شرطة المرور بولاية البحر الأحمر مجرّد محاولة لمقابلة مسؤول حكومي؛ كانت اختباراً عملياً لطبيعة السلطة التي تُدار بها مؤسسات الدولة في السودان اليوم. وما رأيته لم يكن مجرد “باب مغلق”، بل كان رمزاً مكثفاً لعلاقة مختلة بين الدولة والمواطن… علاقة تتأسس على الخوف، والعزلة، والهرب من المساءلة.
مدير المرور… مسؤول يتعامل مع نفسه كحاكم لا يُرى ولا يُسأل
ما حدث لم يكن موقفاً عابراً. عندما وصلت إلى مقر إدارة المرور، أخبرني موظفو السكرتارية — ببرود غريب — أنهم “غير مخوّلين” بفتح باب مكتب المدير لأنهم لا يملكون شفرة البصمة.
لم يكن الأمر مجرد إجراء إداري؛ كان إعلاناً صريحاً بأن المسؤول الأعلى قد اختار أن يُغلق نفسه داخل حصن، وأن يمنح “مفتاح الدخول” لشخص واحد فقط، وكأننا أمام رئيس جهاز أمني لا أمام مدير لإدارة خدمية.
أما المقدم معتز، حامل “الشفرة الذهبية”، فقد أخبرني بأن المدير “تعبان” ويحتاج للراحة خلال ساعات العمل الرسمية.
وهنا السؤال:
هل نحن أمام مدير يخدم شعباً؟ أم أمام مسؤول يرى أن راحته أهم من مصالح الناس؟
هذه ليست حادثة… بل منهج
منذ سنوات، تتجه مؤسسات الدولة السودانية نحو بناء جدران أكثر من بناء ثقة. تتحصّن، وتنعزل، وتتعامل مع المواطن كـ”تهديد” لا كشريك.
ما يجري في مرور البحر الأحمر ليس شذوذاً؛ إنه جزء من ثقافة حكم ترى أن السلطة امتياز وليست مسؤولية.
مدير المرور السابق، اللواء هناي محمد إبراهيم، كان نموذجاً معاكسا تماماً. مكتبه مفتوح، ووجوده محسوس، وصوته مسموع. هذه ليست رومانسية إدارية؛ هذا هو الحد الأدنى من واجبات الوظيفة العامة.
لكن الخلف اختار إدارة المؤسسة من خلف الزجاج المظلل… من داخل غرفة معزولة… عبر بصمة، وحاجب، ومساعد، في مشهد يذكّرنا بإدارة الحكم الشمولي لا بإدارة مرفق خدمي.
سياسة “التحصّن” تعني شيئاً واحداً: السلطة تخاف من الناس
اسمحوا لي أن أقولها بوضوح:
المسؤول الذي يخشى مقابلة مواطن، يخشى المساءلة.
المسؤول الذي يتهرّب من الصحافة، يتهرّب من الشفافية.
المسؤول الذي يختبئ خلف بصمة، يختبئ من الحقيقة.
الهروب ليس مجرد تصرف فردي؛ إنه انعكاس لذهنية إداريّة تهرب من مواجهة الفساد، من سماع الشكاوى، من الاحتكاك المباشر بالناس الذين يُفترض أنها تخدمهم.
البعد الاجتماعي: عندما تتحول الشرطة من جهاز حماية إلى جهاز مغلق
شرطة المرور، في أصلها، جهاز يلامس حياة الناس اليومية. تواجدها في الشارع، تعاملها المباشر مع المواطنين، يفترض أن يجعلها أكثر مؤسسات الدولة قرباً للقاعدة الشعبية.
لكن حين يتحوّل مكتب مديرها إلى “منطقة محظورة”، فإن الرسالة الاجتماعية خطيرة:
القرب من الشعب لم يعد قيمة… بل أصبح عبئاً.
الاحتكاك بالمواطن يُنظر إليه كمصدر للإحراج، لا كواجب.
الشكوى تُعامل كتهديد، لا كحق.
هذا الانفصال يولّد مزيداً من الفساد، لأن الضابط الذي يعلم أن مديره معزول عن الناس يصبح مطمئناً إلى أن الشكوى لن تصل، وأن محاسبته غير واردة.
البعد السياسي: “البصمة” ليست تقنية… بل فلسفة حكم
حين تغلق مؤسسات الدولة أبوابها، فذلك ليس خللاً إدارياً فقط، بل مؤشر سياسي.
الدولة التي تعزل مسؤوليها عن الناس هي دولة تخاف من الرأي العام، تخاف من النقد، تخاف من المواجهة.
وما جرى في مكتب مدير المرور هو صورة مصغّرة من:
دولة بلا شفافية
أجهزة بلا محاسبة
مسؤولين بلا إرادة للخدمة
إدارة تسيطر ولا تخدم
إنها عقلية السلطة التي تفضّل أن تحصّن نفسها بدلاً من أن تصلح نفسها.
ختاماً: على من تُقفل هذه الأبواب؟
أبواب إدارة المرور ليست ملكاً للمدير، ولا للمقدم، ولا لأي ضابط.
هذه أبواب الشعب.
والبصمة التي تمنع المواطن من مقابلة مسؤول، هي بصمة تُسجّل باسم دولة تبتعد كل يوم خطوة إضافية عن الناس.
إن إصلاح العلاقة بين المواطن والدولة يبدأ من فتح الأبواب — حرفياً ومعنوياً — لا بإضافة طبقات جديدة من الحواجز.
وإذا كان مدير المرور يرى في مقابلة الناس تهديداً، فربما عليه أن يعيد التفكير:
في أي جهة يقف؟
مع المواطنين… أم مع المنظومة.



